الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من فوائد القاسمي في الآية: قال رحمه الله:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا}.وهو فضل مال خال عن العوض في معارضة مال بمال. وكتب الربا بالواو على لغة من يفخم. كما كتبت الصلوة والزكوة. وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع: {لاَ يَقُومُونَ} أي: يوم القيامة كما قاله بعض الصحابة والتابعين: {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} في القاموس خبطه: ضربه شديدًا، كتخبطه واختبطه. وفي العباب: كل من ضربه بيده فصرعه فقد خبطه وتخبطه. وأصله: المس باليد، ثم استعير للجنون، لأن الشيطان يمس الْإِنْسَاْن فيجنه. والجار يتعلق إما بلا يقومون أي: لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع من جنونه أو بيتخبطه أي: من جهة الجنون. والمعنى: أنهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين. تلك سيماهم يعرفون بها عند الموقف هتكًا لهم وفضيحة.قال الحرالي: في إطلاقه إشعار بحالهم في الدنيا والبرزخ والآخرة. ففي إعلامه إيدان بأن آكله يسلب عقله ويكون بقاؤه في الدنيا بخُرق لا بعقل. يقبل في محل الإدبار، ويدبر في محل الإقبال.قال البقاعي: وهو مؤيد بالمشاهدة. فإنا لم نرَ ولم نسمع قط بآكل ربا ينطلق بالحكمة ولا يشهر بفضيلة، بل هم أدنى الناس وأدنسهم.تنبيه:قال في الكشاف: وتخبط الشيطان من زعمات العرب، يزعمون أن الشيطان يخبط الْإِنْسَاْن فيصرع. والمس: الجنون، ورجل ممسوس. وهذا أيضًا من زعماتهم. وأن الجني يمسه فيختلط عقله. وكذلك: جُنّ الرجل، معناه: ضربته الجن.وتبعه البيضاوي في قوله وهو: أي: التخبط والمس، وارد على ما يزعمون الخ.قال الناصر في الانتصار: معنى قول الكشاف من زعمات العرب أي: كذباتهم وزخارفهم التي لا حقيقة لها. وهذا القول على الحقيقة من تخبط الشيطان بالقدرية، من زعماتهم المردودة بقواطع الشرع. ثم ساق ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار: وقال بعده: واعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه أمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع عنها. وإنما القدرية خصماء العلانية. فلا جرم أنهم ينكرون كثيرًا مما يزعمونه مخالفًا لقواعدهم. من ذلك: السحر، وخبطة الشيطان، ومعظم أحوال الجن. وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة، وينبئ عنه ظاهر الشرع، في خبط طويل لهم.وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد: وبالجملة فالقول بوجود الملائكة والجن والشيطان مما انعقد عليه إجماع الآراء. ونطق به كلام الله وكلام الأنبياء.وقال: الجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل بأشكال مختلفة ويظهر منها أحوال عجيبة والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في الفساد والغواية. ولكون الهواء والنار في غاية اللطافة والتشفيف، كانت الملائكة والجن والشياطين يدخلون المنافذ الضيقة حتى أجواف الْإِنْسَاْن، ولا يرون بحسن البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات.قال العلامة البقاعي، بعد نقله ما ذكرنا: وقد ورد في كثير من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من الْإِنْسَاْن مجرى الدم». وورد أنه صلى الله عليه وسلم أخرج الصارع من الجن من جوف المصروع في صورة كلب. ونحو ذلك. وفي كتب الله سبحانه وتعالى المتقدمة ما لا يحصى من مثل ذلك. وأما مشاهدة المصروع، يخبر المغيبات وهو مصروع غائب الحس، وربما كان ملقى في النار وهو لا يحترق، وربما ارتفع في الهواء من غير رافع- فكثير جدًا. لا يحصى مشاهدوه. إلى غير ذلك من الأمور الموجب للقطع أن ذلك من الجن أو الشياطيين. وها أنا أذكر لك في ذلك من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع لمن تدبره والله الموفق.روى الدارمي في أوائل مسنده بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إن ابني به جنون، وأنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا، فيخبِّث علينا. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا. فثعّ ثعّةً. وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى. وقوله: ثعّ، بمثلثة ومهملة، أي: قاء.وللدارمي أيضًا وعبد بن حميد بسند حسن أيضًا عن جابر رضي الله عنه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر. فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا كأنما على رؤوسنا الطير، تظلنا. فعرضت له امرأة معها صبي لها. فقالت: يا رسول الله! إن ابني هذا يأخذه الشيطان كل يوم ثلاث مرار. فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل. ثم قال: اخسأ، عدو الله! أنا رسول الله ثلاثًا ثم دفعه إليها.وأخرجه الطبراني من وجه آخر. وبيَّن أن السفر غزوة ذات الرقاع، وأن ذلك كان في حرَّة واقم. قال جابر: فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان. فعرضت لنا المرأة ومعها صبيها ومعها كبشان تسوقهما. فقالت: يا رسول الله! اقبل مني هديتي. فوالذي بعثك بالحق! ما عاد إليه بعد. فقال: خذوا منها واحدًا، وردوا عليها الآخر.ورواه البغوي في شرح السنة عن يعلى بن مرة رضي الله عنه.ثم ساق البقاعي ما جاء في الإنجيل. قال: وذلك كثير جدًا. يعني ما وقع للمسيح عليه السلام من إخراج الشياطين والأرواح الخبيثة من المبتلين بذلك. وبعد أن ساق ذلك قال: وإنما كتبت هذا مع كون ما نقل عن نبينا صلى الله عليه وسلم كافيًا، لأنه لا يدفع أن يكون فيه إيناس له ومصادقة تزيد في الإيمان.وقد أجاد بيان تسلط الأرواح الخبيثة الإمام شمس الدين ابن القيم في زاد المعاد وذكر علاج دفعها فقال عليه الرحمة:فصل: في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع:أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رَبَاح قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء. أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع. وإني أتكشف. فادع الله لي. فقال: «إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك». فقالت: أصبر. قالت: إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف. فدعا لها.قلت: الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية. وصرع من الأخلاط الردية.والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء، في سببه وعلاجه. وأما صرع الأرواح، فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به ولا يدفعونه. ويعترفون بأنه علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة. فتدافع آثارها وتعارض أفعالها وتبطلها. وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه. فذكر بعض علاج الصرع وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة. أما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج. وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع. وليس معهم إلا الجهل. وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك. والحس والوجود شاهدٌ به. وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه لا في كلها. وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع: المرض الإلهي. وقالوا: إنه من الأرواح. وأما جالينوس وغيره. فتأولوا عليهم هذه التسمية وقالوا: إنما سموها بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ. وهذا التأويل نشأ لهم من جهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها. وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده. ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء الأطباء وضعف عقولهم. وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج. فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها. والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان. فإن هذا نوع محاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًا. فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعًا، بكون القلب خرابًا من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له.والثاني: من جهة المعالج بأن يكونوا فيه هذان الأمران أيضًا. حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه. أبو بقول: بسم الله، أو بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اخرج عدو الله! أنا رسول الله». وشاهدت شيخنا يعني الإمام ابن تيمية رضي الله عنه يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ اخرجي. فإن هذا لا يحل لك. فيفيق المصروع. وربما خاطبها بنفسه. وربما كانت الروح ماردة، فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع. ولا يحس بألم. وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارًا. وكان كثيرًا ما يقرأ في أذن المصروع: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم. ومد بها صوته. قال: فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى مجلت يداي من الضرب. ولم يشكّ الحاضرون بأنه يموت لذلك الضرب. ففي أثناء الضرب قالت: أنا أحبّه. فقلت لها: هو لا يحبك. قالت: أنا أريد أن أحج به. فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك. فقالت: أنا أدعه كرامة لك. قال قلت: لا. ولكن طاعة لله ولرسوله. قالت: فأنا أخرج منه.قال: فقعد المصروع يلتفت يمينًا وشمالًا. وقال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا له: وهذا الضرب كله؟ فقال: وعلى أي: شيء يضربني الشيخ ولم أذنب؟ ولم يشعر بأنه وقع ضربٌ البتة. وكان يعالج بآية الكرسي. وكان يأمر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها. وبقراءة المعوذتين. وبالجملة، فهذا النوع من الصرع، وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة. وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله يكون من جهة قلة دينهم وخراب قلوبهم وألسنتهم، من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية. فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه. وربما كان عريانًا فيؤثر فيه هذا. ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى مع هذه الأرواح الخبيثة، وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها. وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة. فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة. وبالله المستعان.وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل. وأن تكون الجنة والنار نصب عينه وقبلة قلبه. ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات والآفات بهم. ووقوعها خلال ديارهم، كمواقع القطر. وهم صرعى لا يفيقون. وما أشد أعداء هذا الصرع! ولكن لما عمت البلية بحيث لا يرى إلا مصروعًا لم يصر مستغربًا ولا مستنكرًا. بل صار، لكثرة المصروعين، عين المستنكر المستغرب خلافه. فإذا أراد الله بعبد خيرًا أفاق من هذه الصرعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يمينًا وشمالًا على اختلاف طبقاتهم. فمنهم من أطبق به الجنون. ومنهم من يفيق أحيانًا قليلة ويعود إلى جنونه. ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى. فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل. ثم يعاوده الصرع فيقع التخبط.ثم قال: وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعًا غير تام. وسببه: خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ، سدة غير تامة. فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذًا ما، من غير انقطاع بالكلية. وقد يكون لأسباب أخر: كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح. أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء. أو كيفية لاذعة فينقبض الدماغ لدفع المؤذي فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء. ولا يمكن أن يبقى الْإِنْسَاْن معه منتصبًا بل يسقط ويظهر في فيه الزبد غالبًا. وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجود المؤلم خاصة. وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها لاسيما إن جاوز في السن خمسًا وعشرين سنة. وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره. فإن صرع هؤلاء يكون لازمًا، قال بقراط: إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا. إذا عرف هذا، فهذه المرأة التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف، يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع. فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها أن لا تنكشف. وخيّرها بين الصبر والجنة، وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان. فاختارت الصبر والجنة. وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي. وإن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء. وإن تأثيره وفعله وتأثير الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها. وقد جربنا هذا مرارًا نحن وغيرنا. وعقلاء الأطباء معترفون بأن في فعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب. وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم. والظاهر: أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع. ويجوز أن يكون من جهة الأرواح. ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيَّرها بين الصبر على ذلك مع الجنة، وبين الدعاء لها بالشفاء. فاختارت الصبر والستر. والله أعلم.{ذَلِكَ} أي: القيام المخبط: {بِأَنَّهُمْ قَالُواْ} أي: بسبب قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أي: نظيره في أن كلًا منهما معاوضة. فإن قلت: هلا قيل: إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع. وحل البيع متفق عليه. فيقاس عليه الربا. وحق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؟ أجيب: بأنه جيء به على طريق المبالغة. وهو أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلًا وقانونًا في الحل. حتى شبهوا به البيع. كذا أجاب الزمخشري.قال الناصر في حواشيه: وعندي وجه في الجواب غير ما ذكر: وهو أنه متى كان المطلوب التسوية بين المحلين في ثبوت الحكم، فللقائل أن يسوي بينهما طردًا. فيقول مثلًا: الربا مثل البيع. وغرضه من ذلك أن يقول: والبيع حلال، فالربا حلال. وله أن يسوي بينهما في العكس فيقول: البيع مثل الربا. فلو كان الربا حرامًا كان البيع حرامًا، ضرورة المماثلة. ونتيجته التي دلت قوة الكلام عليها أن يقول: ولما كان البيع حلالًا اتفاقًا غير حرام، وجب أن يكون الربا مثله. والأول: على طريقة قياس الطرد. والثاني: على طريقة العكس. ومآلهما إلى مقصد واحد. فلا حاجة، على هذا التقرير، إلى خروج عن الظاهر لعذر المبالغة أو غيره. وليس الغرض من هذا كله إلا بيان هذا الذي تخيلوه على أنموذج النظم الصحيح. وإن كان قياسًا فاسد الوضع، لاستعماله على مناقضة المعلوم من حكم الله أيضًا في تحريم الربا وتحليل البيع وقطع القياس بينهما. ولكن إذا استعمل الطريقتين المذكورتين استعمالًا صحيحًا فقل في الأولى: النبيذ مثل الخمر في علة التحريم. وهو الإسكار. والخمر حرام. فالنبيذ حرام. وقل في الثانية: إنما الخمر مثل النبيذ. فلو كان النبيذ حلالًا لكان الخمر حلالًا. وليست حلالًا اتفاقًا. فالنبيذ كذلك. ضرورة المماثلة المذكورة. فهذا الوجيه أولى أن تحمل الآية عليه. والله أعلم. وقوله: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} إنكار لتسويتهم بينهما. إذ الحل مع الحرمة ضدان. فأنى يتماثلان؟ ودلالة على أن القياس يهدمه النص، لأنه جعل الدليل على بطلان قياسهم إحلال الله وتحريمه.قال الرازي: إن نفاة القياس يتمسكون بهذا الحرف. قالوا: لو كان الدين بالقياس لكانت هذه الشبهة لازمة. فلما كانت مدفوعة علمنا أن الدين بالنص لا بالقياس. وذكر القفال رحمه الله الفرق بين البابين فقال: من باع ثوبًا يساوي عشرة بعشرين، فقد جعل ذات الثوب مقابلًا بالعشرين. فلما حصل التراضي على هذا التقابل، صار كل واحد منهما مقابلًا للآخر في المالية عندهما. فلم يكن أخذ من صاحبه شيئًا بغير عوض. أما إذا باع العشرة بالعشرين فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوض، ولا يمكن أن يقال: إن عوضه هو الإمهال في مدة الأجل، لأن الإمهال ليس مالًا أو شيئًا يشار إليه حتى يجعله عوضًا عن العشرة الزائدة. فظهر الفرق بين الصورتين. وقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد أنه سئل: لم حرم الله الربا؟ قال: لئلا يتمانع الناس المعروف. أي: الإحسان الذي في القرض؛ إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله.{فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ} أي: بلغه وعظ وزجر، كالنهي عن الربا: {مِّن رَّبِّهِ} متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيء الموعظة للتربية: {فَانتَهَىَ} عطف على جاءه أي: فاتعظ بلا تراخ، وتبع النهي: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترد منه: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ} إن شاء أخذه لظهور الفرق وإن شاء عفا عنه، لأن الفرق، وإن ظهر لأرباب النظر، يجوز أن يخفى على العوام: {وَمَنْ عَادَ} أي: إلى تحليل الربا بعد النص: {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لكفرهم بالنص، وردهم إياه بقياسهم الفاسد، بعد ظهور فساده. ومن أحل ما حرم الله عز وجل فهو كافر. فلذا استحق الخلود. وبهذا تبين أن لا تعلق للمعتزلة بهذه الآية في تخليد الفساق. حيث بنوا على أن المتوعد عليه بالخلود العود إلى فعل الربا خاصة. ولا يخفى أنه لا يساعدهم على ذلك الظاهر الذي استدلوا به. فإن الذي وقع العود إليه محمول على ما تقدم، كأنه قال: ومن عاد إلى ما سلف ذكره، وهو فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع. ولا شك أن من تعاطى معاملة الربا مستحلًا لها مكابرًا في تحريمها، مسندًا إحلالها إلى معارضة آيات الله البينات، بما يتوهمه من الخيالات- فقد كفر ثم ازداد كفرًا. وإذ ذاك يكون الموعود بالخلود في الآية من يقال إنه كافر مكذب غير مؤمن. وهذا لا خلاف فيه، وفلا دليل إذًا للمعتزلة على اعتزالهم في هذه الآية. والله الموفق. أشار لذلك في الانتصاف.قال في فتح البيان: والمصير إلى هذا التأويل واجب، للأحاديث المتواترة القاضية بخروج الموحدين من النار. اهـ.
|